حق الاختلاف 1
صفحة 1 من اصل 1
حق الاختلاف 1
إن الاختلاف سنة ربانية لا مخلص منها، فالناس يختلفون في ألوانهم، وأشكالهم وقبائلهم، وميولهم وعقولهم، وفي كل شيء، كما يقول أبو الطيب المتنبِّي:
تَخَالَفَ النَّاسُ حَتَّى لَا اتّفَاقَ لَهُم... إِلَّا عَلَى شَجَبٍ وَالْخُلْفُ فِي الشَّجَبِ
فَقِيلَ تخلُصُ نَفْسُ الْمَرْءِ سَالِمَةً... وَقِيلَ تَشْرَكُ جِسْمَ الْمَرْءِ فِي الْعَطَبِ
وقد قال الله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) [الروم:22]. وقال سبحانه: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) [الذاريات:49]. وقال: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) [الحجرات:13].
فلم يقل سبحانه: لتعاركوا، أو لتحاربوا، وإنما قال: (لتعارفوا). والتعارف ليس هو المعرفة فحسب، إنما التعارف هو التعامل بالمعروف، وما المعروف إلا البر والإقساط، والإحسان والصلة.
إن قيام الكون وبقاء الحياة لا يكون بتحقيق رغبة فئة خاصة من الناس بعينها، وإلا لكانت هذه الفئة تطمع في إبادة الآخرين ومحوهم من الوجود، وكانت كل أمة تريد نقيض ما تريده الأمة الأخرى.
إن المرء اليوم على حالٍ وغدًا على حالٍ أخرى، كما قال ربنا تبارك وتعالى: (لتركبن طبقًا عن طبق) [الانشقاق:19]. أي: حالًا بعد حال، وربما سعى اليوم في اتجاه وغدًا في غيره: (إن سعيكم لشتى) [الليل:4].
والإنسان يمر بالطفولة، والشباب، والكهولة، والشيخوخة، والهَرَم، ويتعرَّض للغنى والفقر، والصحة والمرض، ويعرض له نقص الفهم، وتغير المزاج، وتسقط عليه بعض آثار الحالة الخاصة والشخصية والنفسية والعائلية والاقتصادية، فتؤثِّر في حكمه وقراره سلبًا أو إيجابًا، وهذا يقع للعالم والفقيه والداعية والقائد، فليس هو بدعًا ولا استثناءً من الطبع البشري، فضلًا عن أن الحكيم العاقل لا يزال يبحث عن الأفضل والأصوب، ولا يقع أسيرًا لمألوف، أو رهينًا لمحاكاة الذات، أو محاكاة الآخرين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إني والله إن شاء الله، لا أحلفُ على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلَّا كفَّرتُ عن يميني، وأتيتُ الذي هو خير».
فهو يرى في بعض الأوقات هذا خيرًا، حتى يقسم عليه، ثم يبدو له خلافه، فيكفِّر عن يمينه ويأتي الذي ظهر له أنه خيرٌ، وقد يرى المرء الرأي صباحًا ثم ينقضه في المساء.
ومن بديع الحكمة الربانية أن الله تبارك وتعالى منح الناس حق الاختيار، وحمَّلهم مسؤولية اختيارهم في أحكام الدنيا والآخرة، ولو شاء لجعل البشر ملائكة مطيعين: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [التحريم:6]. ولكنه أراد أن يخلق خلقًا فيبتليهم، كما قال سبحانه: (ولكن ليبلوا بعضكم ببعض) [محمد:4].
وهذا ليس ابتلاءً في ميدان القتال والحرب فحسب، بل في ميدان الحياة كلها؛ ولهذا شرع الله تعالى لنا الإحسان في القتل والقتال والذبح.
وفي حديث شدَّاد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ كتبَ الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فأَحْسِنوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحتم فأَحْسِنوا الذَّبْحَ، ولْيُحِدَّ أحدكم شفرته، ولْيُرِحْ ذبيحته».
فهذا أُنموذج في الإحسان أبعد ما يكون عن ذهن الإنسان، وهو الإحسان في قتل مَن يستحق القتل، أو في ذبح بهيمة لمصلحة.
وهكذا شرع الله الإحسان بين الزوجين.. والجيران.. والشركاء، ووضع أسس الأخلاق والمعاملات بين الناس، قريبهم وبعيدهم.
كما شرع الله الإحسان في الدعوة، وتأليف القلوب على الخير، وتحبيب الناس إلى الهُدى، حتى جعل الله في الزكاة سهمًا للمؤلَّفة قلوبهم، ومنهم الكافر الذي يُرجى إسلامه، أو يُرجى دفع شره، أو يُرجى إسلام نظيره، أو المسلم الذي يُرجى بها قوة إيمانه.
كما شرع الله الإحسان لذات الإحسان، حتى لو لم يكن الهدف من ورائه الدعوة، حتى من غير استحضار نية التقرُّب والتعبُّد، كما في الحديث السابق في الإحسان في ذبح البهيمة، وكما قال سبحانه: (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) [الحج:77].
الشيخ سليمان العوده
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى